العجوز ودار المسنين
اقتربت منه حتى أرى وجهه وأقسم أنني لم أرَ مثل هذا الوجه أبدًا رغم ألفة ملامحه!
وجه أبيض شاحب، فم مغلق بإحكام وكأن أصابه الخرس، جبينه مرصع بخطوط التجاعيد بفعل الحاجبين المرفوعين لأعلى، وعينان مفتوحتان سابحتان في عالم آخر، وشعر أبيض خيوطه متنافرة.
فكرت أن أعود لمدام أمل أسألها عن حالته ولكن لا أخفي عليكم أني شعرت بالإحراج، لقد أرهقتها اليوم بما يكفي وإن عدت إليها لا أتوقع استجابة ودودة، بدلًا منها وجدت إحدى الفتيات تمر على عدد من النزلاء لتلقي التحية وتجلس معهم دقائق تتحدث إليهم، يبدو أنها مشرفة مثلاً أو ما شابه ومن المؤكد أنها تعرف أحوالهم جميعًا.
حديث مع مشرفة نزلاء الدار
انتظرت حتى أنهت حديثها القصير مع أحد النزلاء وهممت إليها؛ لأعرفها بنفسي وأطلب منها أية معلومات تعرفها عن ذاك الرجل، لا أدري لما هو بالذات أسر انتباهي كله وفضولي رغم أن هناك العشرات من النزلاء في الحديقة، هذا الرجل أرى فيه شيئًا داخلي لا أستطيع وصفه.
كانت فتاة مهذبة ولم ترفض طلبي وأسرعت بالجواب: ” إنه عجوز ذو ستين عامًا، وفد إلينا منذ أسبوع فقط وهو على هذه الحالة الصامتة المريبة منذ مجيئه. لا نعرف عنه شيئًا ولا نعرف ما إذا كان أخرسًا أم فقد القدرة على التعبير أم على التواصل، لا ندري!”.
قلت لها: ” ألم تعرضوه على الطبيب النفسي ؟”
أجابت: ” لقد جالسه د. رامي فعلاً ولكنه لم يعيره أي انتباه ولم ينطق بأي كلمة”
سألتها مستفسرًا: ” إذا كيف وصل إلى هنا ؟”
قالت: ” أحضره شاب في الثلاثينيات من عمره، يقول أنه لا يعرف عنه شيئًا ولكن شاهده وهو مُلقى على الأرض مغشيًا عليه بعد أن صډمته سيارة فنقله إلى المشفى واعتنى به طوال رحلة علاج جسده، وبعد تحسنه أحضره إلى هنا وتعهد بتكفل نفقاته وذهب ” .. ثم استكملت وكأنها تذكرت شيئًا: ” وقال أن الأطباء في المشفى شخصوه بأنه يعاني حاليًا من شلل في ساقيه يمنعه من الحركة وفقدان للذاكرة، يا له من مسكين!”.
هذا يفسر شيئًا عن هيئته التي أمامي فعلاً، فقدان الذاكرة يجعل الإنسان مجردًا إجباريًا من ماضيه، ينتزعه من نفسه فيجدها أمامه مازالت ملتصقة به ولكنه لا يعرفها، يجهل أي شئ عنها.
قررت أن أحادثه، نعم، سأذهب لأحادثه عن قرب.
اتصال لا فائدة منه
ذهبت فعلاً ملتقطًا كرسي ووضعته بجانبه وبدأت الحديث: ” مرحبًا سيدي، أرى أنك جالس وحيد، فما رأيك أن نحتسي كوبين من القهوة معًا؟ فأنا وحيد هنا أيضًا “. لم يلتفت لي؛ فهممت بتعديل بسيط في مقعدي حتى أرى صفحة وجهه بشكل أوضح، وياليتني لم أفعل!
عيناه شديدتا الغرابة، لم أرَ في حياتي نظرة كهذه، هذا الكم الهائل من المشاعر المتناقضة النابع منهما مخيف، ماذا يجول في خاطر هذا الرجل ؟ أيشاهد ما حوله فعلاً أم أنه يرى فيلمًا في مخيلته ؟ ولو كان فيلمًا فأي فيلم هذا الذي يبعث تلك النظرات ؟ نظرات دهشة ممزوجة بالخذلان والحسړة والتيه والألم! لا أستطيع أن أصف ما يشعر به الآن فكيف بشعوره هو!